[ثمة خيط رفيع بين الطيبه والسذاجه ..
فالطيبه تعني نقاء النية وصفاء السجية والعفوية والتلقائية
أما السذاجه فتشير الى الغباء والوقوع صيدا سهلا للخداع والمكر والكيد ..
والصراع بين الخير والشر والفضيلة والرذيلة صراع أزلي لا نهاية له حتى يوم القيامه ,وإذا كان هناك نوع من البشر طيبين بالفطره فإن هناك نوع آخر من البشر غلبت عليهم نزعة الشر وتملكتهم حتى بدأو يسخروا من الطيبه ويصفوها بالغباء والعجز والضعف والمهانه .
ومابين الطيبه والسذاجه هناك الكثير من التأملات والحكايات والخبرات والأفكار
كل يرى فيها تجربته وخبرته وخيبته وتفاؤله وتشاؤمه .. وتظل الحياه هي الحياه بتناقضها و إزدواجيتها وغرابتها
ويظل الإنسان هو الإنسان في كل زمان ومكان
يبحث في النهايه عن قلب عطوف وصدر حنون وعيون محبه تبصره من الأعماق .
الطيبه و البراءه .
الطيبه تعني أن يكون المرء تلقائيا وعفويا وودودا ومتسامحا يحب الآخرين
ويتمنى لهم الخير ويسعى الى مساعدتهم ومشاركتهم في أوقات الفرح والحزن ..
إن المرء الطيب يمارس طيبته ببساطه وعفويه كما يتنفس إنه طيب لأنه طيب وكفى .
وليس هناك أمرا متعلقا بالطيبه كالحب .. إن شعور الحب الذي تشعر به تجاه شخص ما ..
يمنحك شعورا دافئا بالطيبه والوداعه والموده تجاهه ...
وتجد نفسك تميل الى كل أمر يسعده ويرضيه ويجعلك هذا الشعور حريصا كل
الحرص على أن تظل دائما صورتك في عينيه جميله وجذابه وبراقه
ولعل أجمل مافي هذه المشاعر التي تمتزج فيها الطيبه بالحب
أنها تكون عفويه بلا تفكير أو تخطيط أو تعمد ..
إننا في الحب نمنح الطيبه وخفقة القلب العفوية لمن نحب
كرفه عصفور فتقرأ في رواية " صخرة الحب " ل :" ميشيل زيفاكو "
حينما قام الشاب " جان " بمنح حبيبته " جينيت " مبلغ من المال ومسكن
يأويها هي والمرأه التي قامت بتربيتها وإبنها ..
قالت له محبوبته :" لله ما أطيب قلبك فدعني أشكرك "
فأجابها بصوت منخفض :" ليست هي الطيبه بل هو الحب " .
لكن القلب الطيب الذي أحب يوما لا يعرف سوى لغه واحده هي
لغة الحب والحنان والوداعه لذا سرعان ما نجده يعود لفطرته وطبيعته
إن القلب هو الكنز الذي لا يقرؤه إلا من يملكه
وإن راحة الضمير أنوار تتلألأ في وينابيع متفجره في الصحاري
وكنوز داخل البيوت المهجوره ، لذا كانت الطيبه كالكنز الذي يجعل
من صاحبه دليلا لكل الحائرين والتائهين بين زحام القلوب
وكالنور الذي يهرب اليه الجميع من الظلام والوحشه
ولذا جاء في الحديث الشريف عن الرسول صلى الله عليه وسلم
أنه أخبر صحابته عن رجل سيدخل عليهم هو من أهل الجنه ..
إنها بشاره بالجنه لرجل لايزال يعيش على الارض وبين الناس
وحينما حاول أحد الصحابه الكرام ان يعرف سر دخول هذا الصحابي الجنه
وجد أنها الطيبه والطيبه والطيبه .
فهو حينما يضع رأسه على الفراش لينام لاينسى أن يشهد الله
أنه قد عفى عن كل من ظلمه وغدر به وأغتابه لا لشئ سوى طلبا لرضى الله وعفوه ورحمته .
فهل فكرت يوما في أبعاد أن تكون طيب القلب ؟
هل تأملت ماذا يمكن أن يحدث لك وللعالم من حولك حينما تكون في غاية الطيبه والموده ..
مرهف الحس والإحساس وطيب النيه والسجيه ؟
إن خبرة الأيام والسنين تقول لك إن أثر الطيبه لا يقتصر عليك وحدك
بل تمتد الى عالمك الخاص حيث إسمك ورسمك وأهلك وأصدقائك وقبيلتك
والى حيث عالمك الآخر البعيد الممتد حيث كل الذين يشبهونك في المظهر والسلوك والصفات .
إن الحياة .. ليست بالأيام التي نعيشها
ولاباوراق التقويم التي ننزعها يوميا ونلقيها خلف ظهورنا
إن الحياة هي مانزرعه من حب وطيبه في قلوب الناس
ومانعيشه في داخل تلك القلوب من الغلاف الى الغلاف ..
" لم يدفئني نور العالم بل قول إنسان لي أني ذات يوم أضأت نورا في قلبه " .
الطيبه و السذاجه .
أعلم جيدا أنه من المؤلم أن يكون المرء غبيا لكن الأكثر إيلاما أن يتغابى عليك الآخرين
وأعلم أيضا أنه من الصعب جدا على المرء أن يسير بمحاذاة النهر
ممسكا بيد حنونه وحميمه ليجد نفسه فجأه في النهر
ويكتشف أن اليد التي أحتظنت دفء كفه منذ برهة هي ذاتها اليد التي دفعته بلا رحمه في النهر.
لكن الأصعب من ذلك أن نفقد القدرة على الحب وعلى المزيد من الطيبه
وأن نغلق أبواب القلب والنفس بالخوف والتوجس والحذر والشك
لأننا أكتشفنا ذات لحظه موجعه ومفجعه
أن طيبتنا تحولت في يد الآخرين الى جواز مرور لنكون ضحية لغدرهم ومكرهم
فنشعر كم كانت طيبتنا سذاجه وبراءتنا غباء ..
فتقرأ في رواية " مائة عام من العزلة " ل : " جابرييل غارسيا ماركيز "
كانت الفتاه ذات الجمال الفاتن والبراءه المدهشه " ريميديوس "
تلك الفتاه التي لايراها أحد إلا ويقع في حبها ويفتتن بها
فحينما رأها قائد الحرس الشاب وقع في حبها
وجاء إليها ليصارحها بحبه الصادق لها فصدته عنها
لأن تلهفه عليها أزعجها واخافها ونظرت الى صديقتها
وقالت : " إنظري الى سذاجته ، قال لي أنه سيموت بسببي كأنني مرض معدي يؤدي الى الموت "
وحينما عثروا على الشاب صريعا ميتا تحت نافذتها من شده حبه لها
قالت لصديقتها بكل برود :" ألم أقل لك إنه ساذج " .
إنني أؤمن أن الطيبه هي التي تكسب في النهايه
مهما راهن الآخرين على جواد الذكاء والإنتهازيه والغدر وحب الذات والأنانيه
لأن الطيبه هي التي تنتصر في النهايه
ويكفي أن نسمع من الأخرين كلمة " الله يذكرهم بالخير "
في حضورنا المعنوي وغيابنا الجسدي لأن هذه الكلمة تبدو دائما هي
أعز الإمنيات عند بعض المسافات وأغلاها حين لا تلتقي الوجوه
أو تتعثر عند ميناء فراق أو حيره أو رباط .
ولأن الحياه ليست في النهاية كتابا رومانسيا مليئا بالعبارات الرقيقة
التي تنتهي بإجتماع الشمل ولاديوان شعر يتحدث فقط عن دغدغة المشاعر وملامستها
بل هي رواية حقيقة وواقعية مليئة بالموت والحياه والفرح والحزن والهزيمة والنصر والنجاح والفشل ..
لذا يتوجب علينا أن نؤمن أن الحياه كالبحر يهدر أحيانا ويستكين احيانا
والبحار الرائع والماهر هو من يعرف كيف يبحر ويجدف في كل الأحوال ...
ولعل أجمل مايمكن أن نختم به رحلة الحديث هاهناعن الطيبة والسذاجه
ماحكته الأساطير الهنديه عن قصة الثعبان والتي تبرز اهمية التوازن
وعدم التفريط في الطيبه والتسامح حتى لايعتبرها الآخرون ضعفا ومهانه
وتحكي هذه القصة عن الثعبان الذي أستيقظ ضميره فجأة
وأراد أن يكفر ويكف عن إيذاء الآخرين فسعى الى راهب
هندي يستفتيه في أمره فنصحه الراهب
بأن ينتحي من الأرض مكانا معزولا وأن يكتفي بالنزر اليسير من القوت
تكفيرا عن جرائمه ففعل ذلك لكنه لم يسترح
لأن مجموعة من الصبيان جاءوا اليه فقذفوه بالأحجار
فلم يرد عليهم فشجعهم ذلك على ان يذهبوا اليه في كل يوم ويقذفوه بالأحجار
حتى كادوا يقتلوه فعاد الثعبان مره اخرى الى الراهب يسأله
فقال الراهب : إنفث في الهواء نفثه كل إسبوع
ليعلم هؤلأ الصبيه أنك تستطيع رد العدوان إذا أردت ذلك
فعمل الثعبان بنصيحة الراهب فأبتعد الصبيه عنه وأستراح .
وكلنا ياصديقي مثل ذلك الثعبان في حيرته وألمه وندمه وحزنه وشجنه ..
تمضي حياتنا بين الطيبه والسذاجه وفي الحيره بين الخير والشر
وكلنا ياصديقي يجب أن يتعلم كيف ينفث أحيانا في وجه ذوي القلوب المريضه
والنفوس الدنيئه ليعلموا ان طيبتنا ووداعتنا ليستا ضعفا أو سذاجه
وإنما هي مبدأ اخلاقي وإنساني وترفع عن الأذى
وخوفا من عقاب الله وطمعا في رحمته وثوابه .
هذا المقال منقول مع بعض الاضافات الخاصة b]